منذ انبعاثه سنة 1982، أظهر المعهد العالي للموسيقى بتونس ديناميكيّة تصاعديّة على المستوى البيداغوجي والعلمي والمؤسساتي. وهو إحدى المؤسسات الجامعية التونسية التي آلت على نفسها منذ ذلك التاريخ توفير تكوين مزدوج يجمع بين التعليم الموسيقي بمقارباته المنهجية والتطبيقية والعلوم الموسيقية كمجال معرفي يجمع بين الدراسات النظرية والميدانية والتحليلية، لكي يضمن هذا التكوين للطالب القدرة على الإلمام بمختلف الوحدات التعليمية مع استيعاب مضامينها، ويتشبع بفلسفة التلازم بين ما هو موسيقي وما هو معرفي. ولتحقيق ذلك، وعلى مستوى التكوين العام، اختارت الهياكل البيداغوجية والعلمية للمعهد أن تحدث برامج ومسارات تكوين تنطلق من مرحلة الإجازة لتتجه إلى الماجستير وتنتهي بالدكتوراه.

يَضم المعهد ثلاث مراحل من التكوين توزعت بين الإجازة المشتركة في الموسيقى والعلوم الموسيقية التي تهدف إلى تكوين موسيقيين وباحثين في الموسيقى والعلوم الموسيقية، وإجازة في الموسيقى والأداء من أهدافها تكوين موسيقيين متمرسين قادرين على العزف وتعليم آلات اختصاصهم. وعلى مستوى المرحلة الثانية، يوفر المعهد ماجستير بحث في الموسيقى والعلوم الموسيقية من أهدافه تكوين طلبة في مجال العلوم الموسيقية، وماجستير بحث في الموسيقى والأداء كاختصاص يُمكن الطلبة من دعم قدراتهم الموسيقية ومن اكتساب الآليات الضرورية لدراسة التعبيرات الموسيقية باستعمال مناهج التحليل الموسيقي ومقاربات الموسيقولوجيا التطبيقية. وتُتوّج هذه المسارات بمرحلة الدكتوراه في الموسيقى والعلوم الموسيقية التي من أهدافها تكوين كفاءات قادرة على ربط الصلة بين الفعل الموسيقي من جهة، والعلوم الموسيقية كمجال معرفي يبحث في أسرار التعبيرات الموسيقية بمختلف أرصدتها وأساليبها ويؤسس لمقترحات السياسات الثقافية واستراتيجياتها طبقا لحاجيات سوق الشغل المحلية، من جهة أخرى.

كما ينظم المعهد تربصات ميدانية على كامل السنة الجامعية، ومن أهدافها دعم التكوين النظري وإدماج الطالب في فرق ومجموعات موسيقية تكون في شكل ورشات يشرف عليها أساتذة من أصحاب الخبرات الميدانية وتُتوج هذه التربصات بعروض موسيقية تكون بمثابة الامتحان يستشعر من خلالها الطالب مكانة الجمهور في تقييم أعماله ومن شأنها أن تدفعه إلى المزيد من الإنتاج والإبداع. وفي نفس السياق، ينظم المعهد لطلبة الماجستير رحلات دراسية إلى المواقع الأثرية والمتاحف التونسية لاستكشاف الآثار الموسيقية عبر تاريخ تونس القديم من خلال ما تم العثور عليه من  مسارح وآلات موسيقية ومنحوتات ورسوم ومصادر أيقونية…، فضلا عن الورشات الموسيقية التي ينظمها المعهد بصفة دورية ويؤمنها أساتذة دُوَليّون من ذوي الكفاءة والخبرة.

أما على مستوى البحث العلمي، فيحتوي المعهد على مخبر البحث في الثقافة والتكنولوجيات الحديثة والتنمية وهو هيكل علمي يخضع لمتابعة الإدارة العامة للبحث العلمي بمرافقة هيكليّة من طرف مدرسة الدكتوراه فنون وثقافة. وينشط المخبر انطلاقا من شواغله الموسيقية وما يقترحه من انفتاح على موسيقات العالم، مرتكزا في ذلك على مقاربات العلوم الثقافية وما تقدمه من مساحات وإمكانات للتفكير من أجل تحقيق تنمية فنية واجتماعية واقتصادية باختصاصاتها المتعددة.

ومن المشاريع المرتقبة للمعهد، أنه يتطلع إلى إحداث أكاديمية الفنون وهي مقر جديد بالأرض المعدة للغرض بضفاف البحيرة 1 يستجيب لشروط ومتطلبات التعليم الموسيقي الحديث، ويكون في نفس الوقت قطبا أكاديميا للأبحاث الموسيقية والموسيقولوجية ليستقطب عددا هائلا من الطلبة الباحثين في مجال الموسيقى والعلوم الموسيقية وفي الاختصاصات المجاورة له.

وبمناسبة الاحتفال بمرور أربعين سنة على تأسيسه، يعتزم المعهد خلال هذه السنة بعث إذاعة محلية بمقره الحالي- 20 شارع باريس- كوسيلة إعلامية يتم من خلالها التعريف ببرامج المعهد وأنشطته الموسيقية والبيداغوجية والعلمية والمؤسساتية على الواب، ستكون مجهزة بأحدث المعدات التقنية واللوجستية، ويشرف عليها أساتذة وتقنيون وطلبة من الكفاءات المشعة بالمعهد.

وللمعهد مكتبة عريقة تعج بالكتب والدراسات والدوريات والمجلات والمناهج التعليمية… معظمها في مجالات الموسيقى والعلوم الموسيقية والفنون، وتعتبر الوحيدة في تونس من حيث التخصص، إذ تعود المصادر والمراجع المتوفرة فيها إلى فترة ما قبل تأسيس المعهد، يؤمها طلبة وزوار من الجامعيين ومن عامة الناس. وقد تم خلال هذه السنة إحداث مكتبة جديدة خاصة بالمخبر تتضمن الكتب والدراسات التي أصدرها منذ تأسيسه سنة 2005 على يدي الأستاذ محمد زين العابدين، وهي منشورات منبثقة عن التظاهرات العلمية التي تم برمجتها من مؤتمرات وندوات وملتقيات، والتي تم تنظيمها بالاشتراك مع مراكز بحث وجمعيات ومؤسسات جامعية محلية ودولية.

  ويُعد المعهد حوالي تسعين إطار تدريس من أساتذة تعليم عال (03) وأساتذة محاضرين (05) وأساتذة مساعدين مؤهلين (01) وأساتذة مساعدين  (26) ومساعدين للتعليم العالي(22) وأساتذة متعاقدين (16)  وعرضيين (17) إلى جانب أعوان وتقننين وموظفين إداريين(32) يسهرون جميعا على تكوين حوالي أربعمائة طالبا وطالبة ويشرفون على تأطيرهم وتسييرهم في مجالات التكوين المذكورة ضمن مسارات الإجازة والماجستير والدكتوراه.

وفي الختام، يسعدني أن أتقدم بالشكر لكل من ساهم في رفع مستوى هذا الصرح الجامعي الكبير سواء من خلال التسيير أو التكوين أو عن طريق البحث العلمي والإنتاج الموسيقي والعزف والتلحين والتوزيع والقيادة…، وسنظل في النهاية مدينين لهذه المؤسسة المرجعية التي احتضنتنا ورافقتنا طيلة مسارنا العلمي وساهمت في تحقيق أهدافنا وطموحاتنا الذاتية والموضوعية، الفنية منها بشكل خاص، والبيداغوجية والمعرفية بشكل عام.

هذا المعهد تداول على تسييره عدة شخصيات إدارية وعلمية وفنية، تركت كل واحدة منها بصمتا وتوجها، ومن بين هؤلاء من مرّ على المعهد لفترة وجيزة لسد شغور إداري في مرحلة ما. ولا يسعني في هذه المناسبة التاريخية إلا أن أذكر بأسمائهم وبفترات إدارتهم للمعهد: الأستاذ محمود قطاط الأب المؤسس للمعهد (1982-1986 / 1991-1997)، الأستاذ علي بالعربي (1987-1988)، الأستاذ زبير الأصرم (1988-1990)، المرحوم الأستاذ مصطفى علولو(1997-2005)، الأستاذ سيف الله بن عبد الرزاق (2009-2014)، الأستاذ محمد زين العابدين (2005-2008 / 2014-2016)، وكاتب هذه  السطور سمير بشة الذي بصدد استكمال دورته النيابية الثانية والأخيرة (2018-2020 / 2021-2023).

في إطار هذا الاحتفال بمرور أربعين سنة على التأسيس 1982-2022، سنعمل جميعا على استحضار الذاكرة والتاريخ وسنقرأ الواقع بتمعن وبنقد ذاتي كما سنهيئ المجال تدريجيا ليُسَلم المشعل إلى جيل لاحق حتى يواصل المسيرة بتفان وإخلاص ويحقق مستقبلا واعدا فيه من الإنتاج والإبداع والتفكير وليرتقي إلى ما هو أفضل في سياق ما تفرضه السياسات التعليمية والتاريخ والواقع والحياة وطموحات الأفراد ومتطلباتهم الجمالية والإنسانية.

تونس في 01 أكتوبر 2022

سمير بشة، مدير المعهد